قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام
قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا* فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا* فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا* قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا* فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا* قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا* فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا* فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا* قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا* فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا* أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا* وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا* وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}سورة الكهف.
قام نبي الله موسى عليه السلام خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله تعالى عليه إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله تعالى إليه إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين أي ملتقاهما هو أعلم منك، فقال موسى عليه السلام: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مِكتل – وهو ما يشبه القُفّة- فحيثما وجدت الحوت فهو ثمّ أي هناك، وتهيأ موسى عليه السلام للسفر وكله شوق لمقابلة هذا الرجل ورؤيته، وانطلق عليه السلام في سفره هذا مع فتاه يوشع بن نون الذي كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه، وكانا قد تزوّدا حوتًا مالحًا وضعاه في قفة فكانا يصيبان منه ويأكلان عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر وضعا رأسهما عليها وناما، وكان قد وضع فتاه يوشع المِكتل فأصاب الحوت بلل البحر، فعاش وتحرك في المكتل بقدرة الله تعالى ثم سقط وانسرب في البحر، وأمسك الله تبارك وتعالى بقدرته جرية الماء في البحر حتى جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرةً بقدرة الله تعالى وقيل: صار عليه مثل الطاق، وكان قد قيل لموسى عليه السلام: تزوّد حوتًا مالحًا، فإذا فقدته وجدت الرجل، ولما نام موسى عليه السلام على الصخرة واستيقظ مضى لقضاء حاجة له ونسي فتاه وصاحبه يوشع أن يخبره بما جرى للحوت وكيف انسرب في البحر، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما بحثًا عن الرجل الذي اخبره الله بأنه أعلم منه، فلما جاوزا المكان الذي ذهب فيه الحوت في البحر أصابهما ما يصيب المسافر من النصب والتعب، فدعا موسى عليه السلام فتاه يوشع بالطعام وقال له{آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}وهنا تذكّر يوشع أمر الحوت وخبره وعرض على موسى الرجوع إلى الصخرة التي نزلا وفقدا الحوت عندها وقال له:{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}فقال موسى عليه السلام لفتاه يوشع:{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فرجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان ءاثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هناك رجل مسجّى بثوب وكان هو الخضر عليه السلام، فسلم عليه موسى عليه السلام فقال له الخضر: وأنّى بأرضك السلام، وقال له الخضر عليه السلام: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني ممّا علمت رُشدًا، فقال له الخضر:{إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}يا موسى، وقال له أيضًا: يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال له موسى عليه السلام:{سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.
فقال له الخضر عليه السلام:{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}أي حتى أكون أنا الذي أبينه لك لأن علمه قد غاب عنك {فَانطَلَقَا} يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر عليه السلام فحملوهم في السفينة بغير عطاء، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى عليه السلام إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم وقيل: قبع لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى عليه السلام بثوبه وأنكر عليه وقال له: قوم حملونا بغير نول – أي عطاء- وعمدت إلى سفينتهم فخرقتها{لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي منكرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}المعنى عاملني باليسر لا بالعسر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فكانت الأولى من موسى نسيانًا”.
وبينما كان موسى والخضر عليهما السلام على ظهر السفينة يتجاذبان أطراف الحديث جاء عصفور ووقف على طرف السفينة فنقر في البحر نقرة بأن غمس منقاره في البحر وأخرجه، فقال الخضر لموسى عليهما السلام: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر!
ثم خرج موسى والخضر عليهما السلام من السفينة وانطلقا، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع رفاقه الغلمان، فما كان من الخضر عليه السلام إلا أن اخذ رأس هذا الغلام بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى عليه السلام:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} فما كان من موسى عليه السلام إلا أن{قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}يريد أنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، يعني أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرًا.
وانطلقا عليهما السلام يمشيان حتى مرا على أهل قرية فسألاهم الضيافة وطلبا من أهل هذه القرية الطعام فأبوا أن يطعموهما ويضيفوهما، ثم وجدا جدارًا مائلًا يكاد أن يقع ويسقط، فقام الخضر عليه السلام وأقامه بيده وسوّاه، فقال له موسى عليه السلام: قوم أتيناهم فلم يُطعمونا ولم يضيفونا وكان بإمكانك أن تطلب منهم أجرًا على إقامة الجدار فقال له الخضر عليه السلام:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي} أي المفرّق بيننا، وقبل أن يفترقا أنبأ الخضر عليه السلام موسى عليه السلام بتأويل الحوادث والقصص الثلاث التي حدثت معهما قائلاً له:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي إنما خرقتها لأن الملك إذا رءاها منخرقة ومعيبة تركها، لأنه كان يأخذ غصبًا كل سفينة صالحة، فإذا تركها رقّعها أهلها فانتفعوا بها.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي أن هذا الغلام كان أبواه مؤمنين فخشي الخضر عليه السلام أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على طغيانه وكفره، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا”. وقتل الخضر عليه السلام هذا الغلام رحمة بأبويه المؤمنين وعسى الله تبارك وتعالى أن يبدلهما بغلام مؤمن صالح.
فائدة: قال أحد العلماء عن أبوي هذا الغلام المقتول: فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما فليرض امرؤٌ بقضاء الله.
وأما الحادثة الثالثة فقد بيَّنها الخضر عليه السلام بقوله:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}سورة الكهف.
فقد كان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام وسواه كنز من ذهب وفضة، وكان هذا الكنز لغلامين يتيمين وكان أبوهما مؤمنًا صالحًا تقيًّا فأراد الخضر عليه السلام أن يقيم هذا الجدار المائل حتى يبلغ هذان اليتيمان أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من الله تبارك وتعالى بهما.
فائدة في كنز الغلامين اليتيمين: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: “إنَّ هذا الكَنز كان لوحًا من ذهب كُتب فيه: عجبًا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب – أي يتعب-، عجبًا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبًا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبًا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبًا لمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها. أنا الله الذي لا إله إلا أنا محمدٌ عبدي ورسولي“.
تنبيه: قال الله تبارك وتعالى:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا} قال المفسرون: هو الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان، والصحيح عند العلماء أنه نبي من أنبياء الله بدليل قوله تعالى حكاية عنه:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
وأما تسميته بالخضر ففيه قولان:
أحدهما: أنه كان إذا جلس اخضرَّ ما حوله، وكذلك إذا صلى اخضر ما حوله.
والقول الثاني: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت والفروة هي الأرض اليابسة، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما سُمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء” رواه البخاري، وقيل: المراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات.
واختلف العلماء هل هو باق إلى يومنا هذا أم مات، والصحيح أنه حي لم يمت بعد وسيموت، ويقال إنه كان في عهد ذي القرنين والله أعلم.
قصة قارون مع موسى عليه السلام
قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ* فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ* فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ* تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}سورة القصص.
قارون الذي ذكره الله تعالى في القرءان هو ابن عم موسى عليه السلام وقيل غير ذلك، وكان من أتباع فرعون مصر الكافرين الذين اتبعوا فرعون على كفره وضلاله، وكان رجلاً طاغيًا فاسدًا غرته الحياة الدنيا، وكان كثير المال والكنوز، وقد ذكر الله تبارك وتعالى كثرة كنوزه وبيّن أن كنوزه كان يثقل حمل مفاتيحها على الرجال الاقوياء الأشداء حتى قيل: إن مفاتيح خزائن كنوزه كانت تحمل على أربعين بغلًا.
ولكن قارون غرته الحياة الدنيا وغرّه ما عنده من أموال وكنوز، وطغى وبغى على قومه بكثرة أمواله وافتخر عليهم واستكبر بما ءاتاه الله تعالى من الأموال والكنوز، فنصحه النصحاء من قومه ووعظوه ونهوه عن فساده وبغيه وقالوا له ما أخبر الله تعالى:{لا تفرحْ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحين}أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك وتستكبر إن الله لا يحب الذين يفتخرون بأموالهم على الناس وقالوا له:{وابتغِ فيما ءاتاكَ اللهُ الدّارَ الآخرة}أي لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة بالإيمان والعمل الصالح فإن هذا خير وأبقى وقالوا له: {ولا تنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا}أي ولا تنس أن تأخذ من الدنيا لآخرتك بالتزود لها والاستعداد كما قال ابن عباس. ثم نصحوه قائلين له:{وأحسِنْ كما أحسنَ اللهُ إليكَ ولا تبغِ الفسادَ في الأرضِ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسدين}أي أحسن إلى خلق الله كما أحسن الله تعالى خالقهم إليك، ولا تفسد فيهم وتبغ فتعاملهم بخلاف ما أمرت به، ولكن قارون أجابهم جواب مغتر مفتون مستكبر فقال لهم:{قالَ إنَّما أوتيتُهُ على علمٍ عندي}يعني أنا لا احتاج إلى نصيحتكم أي أوتيته على معرفة مني وخبرة، ثم أخذ يزداد في بغيه وفساده معتقدًا أن الله سبحانه يحبه ولذلك أعطاه هذا المال الكثير.
قال الله تعالى ردًا عليه فيما ذهب واعتقد:{أوَلَمْ يعلمْ أنَّ اللهَ قدْ أهلكَ مِنْ قبلهِ مِنَ القرونِ مَنْ هُوَ أشدُّ منهُ قوةً وأكثرُ جمعًا} أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر مالاً فلو كان إفاضة المال الكثير على عبد من عباد الله دليلًا على محبة الله تعالى لهذا العبد لما عاقب الله تعالى أحدًا ممن كان أكثر مالاً منه كما قال الله تبارك وتعالى:{وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلفى إلا مَنْ ءامنَ وعَمِلَ صالحًا}.
وخرج قارون يومًا متجملاً في موكب عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم فلما رءاه قومه من هو مغرور بزهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله وغبطوه بما عليه من زينة وما له من كنوز وأموال، فلما علم بمقالتهم العلماء العارفون ذوو الفهم الصحيح والزهاد قالوا لهم: {وَيْلكم ثوابُ اللهِ خيرٌ لمن ءامَنَ وعَمِلَ صالحًا}أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى، قال الله تعالى:{ولا يُلَقَّاها إلا الصَّابرون} أي وما يُلقّى هذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة عند النظر إلى نعيم هذه الدنيا الزائل الفاني إلا من هدى الله تعالى قلبه وثبت فؤاده وجعله من الصابرين.
بينما قارون في موكبه خسف الله تعالى الارض به وبداره فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، قال الله تعالى:{فخسَفنا بهِ وبدارهِ الأرضَ فما كانَ لهُ من فئةٍ ينصُرونهُ من دونِ اللهِ وما كانَ مِنَ المُنتصرين}سورة القصص.
وما حلّ بقارون ما حل من خسف وذهاب الأموال وخراب الدار وخسفها، ندم من كان تمنّى مثل ما أوتي وشكروا الله تعالى الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدره ويضيقه على من يشاء، وشكروا الله تعالى الذي لم يجعلهم كقارون طغاة متجبرين متكبرين فيخسف بهم الأرض.
قال الله تعالى:{وتلكَ الدارُ الآخرةُ نجْعلُها للذينَ لا يريدونَ عُلوًا في الارضِ ولا فسادًا والعاقبةُ للمُتَّقين}أي أن الدار الآخرة وهي الجنة معدة للذين لا يريدون تكبرًا وفخرًا وأشرًا وبطرًا في الارض ولا يريدون الفساد بها وأخذ أموال الناس وإفساد معايشهم والإساءة إليهم وعدم النصح لهم، ثم أخبر تعالى أن العاقبة المحمودة لعباده المتقين الذين يلتزمون أوامره فيؤدون الواجبات ويجتنبون المحرمات.
فائدة: يروى أن الله تبارك وتعالى أمر قارون بالزكاة فجاء إلى موسى عليه السلام من كل ألف ديناء بدينار، ثم جمع مفرًا يثق بهم من بني إسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا له: مرنا بما شئت قال: ءامركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جعلًا أي أجرة فتقذفه بنفسها ففعلوا ذلك فأجابتهم إليه، ثم أتى قارون إلى موسى عليه السلام فقال: إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم نبي الله موسى عليه السلام فقال لهم: من سرق قطعناه ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت.
فقال له قارون: إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال عليه السلام: أدعوها، فلما جاءت قال لها موسى عليه السلام: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا ولكن جعلوا لي جعلًا على أن أقذفك، فسجد موسى عليه السلام ودعا الله عليهم فأوحى الله تعالى إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال موسى عليه السلام: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم حتى خُسفت بهم.
حجه عليه السلام وصفته
روى مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: “أي واد هذا“، قالوا: وادي الأزرق، قال:”كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية“.
وروى أحمد عن ابن عباس قال: “وأما موسى فرجل ءادم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة – أي ليف- كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي”.
وروى أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وأما موسى فآدم جسيم سبط“، وروى أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً طوالًا جعدًا كأنه من رجال شنوءة“.
وفاة موسى عليه السلام
قيل: وكان عمر موسى عليه السلام عند وفاته مائة وعشرين سنة، والله أعلم، ونُبئ بعده يوشع بن نون من ذرية إبراهيم عليهم السلام.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر“.