إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريـك له وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ العظيم، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:” إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”. سورة نوح الآية
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:” مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأناسٍ مِنَ اليهودِ وقد صامُوا يومَ عاشوراء فقالوا: هذا اليوم الذي نَـجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيلَ منَ الغرق، وغرقَ فيه فرعون، وهذا اليوم استقرتْ فيه السفينةُ على الجوديِّ فصامَه نوحٌ وموسى شُكرا لله عز وجل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنا أحقُّ بموسى وأحقُّ بصومِ هذا اليوم” رواه أحمد في مسنده.
واليومَ إخوةَ الإيمان سنقِفُ بإذنِ الله تعالى عند محطّةٍ أخرى من محطاتِ العاشرِ من المحرّم لنتعلم منها العِبَرَ والعظاتِ والدروس، ألا وهي قصة سيدِنا نوحٍ عليه السلام، وما جرى على الكافرين الذين رفضوا الإيمانَ وأصرُّوا على الكفرِ منَ العذابِ والهلاك.
إخوة الإيمان والإسلام، وكما تعلمون فإنَّ الله تبارك وتعالى بعثَ الأنبياءَ مُبشرين ومنذرين لِيُبلِّغوا الناسَ مصالحَ دينِهم ودنياهُم فكانوا جميعا على دينِ الإسلامِ العظيم، وأولُ الأنبياءِ ءادمُ عليه السلام ثم ابنُه شيث ثم إدريس وكان البشرُ في زمانهم على الإسلام،لم يكنْ بينهم كافرٌ وإنما حدثَ الشركُ والكفرُ بالله تعالى بعدَ وفاةِ إدريسَ عليه السلام فقد كان من بين أتباعِه خمسةُ رجالٍ مسلمين صالحين يُقال لهم: وَدٌّ وسُواعٌ ويَغُوثُ ويَعُوقُ ونَسْر، وكان الناسُ يحبونهم كثيرا، فلما ماتوا ظهرَ إبليسُ لعنةُ اللهِ عليه للناسِ بصورةِ إنسانٍ ليفتنَهم عن دينِ الإسلام وأمرَهم أن يعمَلوا تماثيلَ لهؤلاءِ الرجالِ الخمسةِ ثم لما طالتِ الأيامُ ظهرَ لهم مرةً أُخرى في وقتٍ كثُرَ فيه الجهلُ والفسادُ في الأرضِ وأمرهم أن يعبدوا هذه التماثيلَ (الأصنام) الخمسةَ فأطاعُوه وعبدوهُم واتخذوهُم ءالهةً من دونِ الله فصاروا كافرين مشركين، فأرسلَ اللهُ سيدَنا نوحًا عليه السلام إلى هؤلاء الكفارِ فصار يدعوهم بالليلِ والنهارِ والسِّرِّ والإجهارِ، بالترغيبِ تارةً والترهيبِ تارةً أُخرى وظلَّ هكذا ألفًا إلا خمسينَ سنةً لكنّ أكثرَهم لم يؤمنْ بلِ استمرُّوا على الضلالِ والطغيان ونصبوا له العداوةَ وكانوا يستهزئونَ به ويؤذونه ويَضربونه ولا يتركونَه حتى يُغشَى عليه مِن شدةِ الضربِ فيظنونَ أنه ماتَ ثم يعافيه اللهُ فيعود إليهم ليدعوهم إلى الإيمان من غير كلل ولا ملل.
ثم إن الله أوحى إليه أنه سيرسلُ على الأرضِ طوفانا عظيما سَيُغرِقُ المشركين وأمرَه أن يصنعَ السفينةَ فأقبلَ على عملِ السفينة (فصنعَها من شجرةٍ نبتتْ يومَ وُلِدَ وكانَ طولُها نحوَ ثلاثمِائةِ ذراعٍ وعرضُها نحوَ ثمانين). وجعلَ قومُه يمرونَ به وهو في عملِه ويسخَرون منه وكانوا لا يعرفونَ السفنَ قبلَ ذلك ويقولون: يا نوح قد صِرتَ نجارا بعدَ النبوة؟ فلمَّا فرغَ من عملِه وجاءَ أمرُ اللهِ صعِدَ نوحٌ إلى السفينةِ ومعه كلُّ مَن ءامنَ مِن قومِه ومِن جملتِهم أولادُه الثلاثةُ سام وحام ويافث وزوجاتُهم، أما ولدُه الرابعُ كنعان فكانَ منَ الكافرينَ فدعاه إلى الإيمانِ وأن يصعدَ معهم السفينةَ فأبى. ” قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء” فردَّ عليه والدُه:” قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ” سورة هود/43.
وأوحى اللهُ إلى نوحٍ عليه السلامُ أنه لن يؤمنَ بكَ من قومِك إلا مَن قد ءامنَ وكانوا بِضعةً وثمانينَ شخصا، فلما عَلِمَ نوح ذلك صارَ يدعو على الكفارِ ويقول:” رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” سورة نوح/26. كما أخبرَ بذلك ربُّنا تباركَ وتعالى. ومعناه لا تَتْرُكْ يا ربي أحدا من الكفار حيا على وجهِ الأرض.
وأخذَ نوح معه في السفينةِ منَ البهائمِ والطيورِ منْ كلِّ نوعٍ ذكرا وأنثى ثم أمرَ اللهُ الأرضَ أن تُنْبِعَ ماءَها فنبعَ الماءُ منْ جميعِ فجاجِها مدةَ أربعينَ يومًا ثم نزلَ المطرُ منَ السماءِ أربعينَ يوما فالتقَى ماءُ السماءِ على الماءِ الذي نبعَ منَ الأرض، ولولا ذلك لخرَّبَ ماءُ السماءِ من قُوَّتِه وضخامَتِه الجبالَ وشقَّقَ الأرضَ لأنه نزلَ قِطَعًا ضخمةً ذلك الوقت ليس كالمطر الذي ينْزل اليوم، وقد بلغ ماءُ الأرض الذي تحمّل ماءَ السماءِ ارتفاعًا عظيما يستغرقُ الشخصَ لو أرادَ قطعَه خمسةَ أشهرٍ حتى يبلغَ أعلاه فأغرقَ اللهُ الكافرين.
وظل نوح ومن معه في السفينة نحوَ ستةِ أشهرٍ وفي هذه المدةِ طافتْ بهم في الأرضِ كلِّها لا تستقرُّ حتى أتتِ الحرمَ في مكةَ المكرمة فدارتْ حولَه أسبوعا ثم ذهبتْ تسيرُ حتى انتهتْ إلى جبلِ الجوديِّ وهو بأرضِ الموصلِ في العراقِ فاستقرتْ عليه، وأمرَ اللهُ السماءَ أن تُمسِكَ ماءَها والأرضَ أن تبتلعَ ما تجمَّعَ عليها وهبطَ نوح عليه السلام ومن معَه منَ السفينةِ محفوفًا بالنصر، بعدَما جفَّتِ الأرضُ وأمكنَ السعيُ فيها والاستقرارُ عليها، وعاشَ نوح والذين ءامنوا معه على الأرضِ وما كانَ لأحدٍ منهم ذريةٌ بعد ذلك إلا لأولادِ نوح؛ سام وحام ويافث، فالبشرُ كلُّهم اليومَ من عربٍ وفُرسٍ وهنودٍ وزنوجٍ وغيرِهم من ذُرِّيتِهم.
ويُروَى أنَّ نوحا عليه السلام لَمَّا حضرتْه الوفاةُ قيل له كيفَ رأيتَ الدنيا؟ وهو الذي عاش نحوَ ألفٍ وسبعِمِائةٍ وثمانين سنة قال:” كبيتٍ له بابان دخلتُ من أحدِهما وخرجتُ منَ الآخر” .
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَنَا منَ الذين يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَه .
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم