الحمد لله الواحدِ القهارِ العزيزِ الغفّارِ، مُكَوّرِ الليلِ على النهارِ تَذْكِرَةً لأُولي القلوبِ والأبصارِ، وتبْصِرَةً لِذَوِي الأَلْبابِ والاعتِبارِ، الذي هَدَى مِن خَلْقِهِ مَن اصطفاهُم فزَهَّدَهُم في هذه الدارِ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ العزيزُ الجبّارُ، وأشهد أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيُّهُ العربيُّ المختارُ، الذي اصطفاه ربه وجعله إمامًا للمتقين وسَيِّدًا للأبرارِ.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته أهل الأَسرارِ، وعلى مَن سار خَلْفَهم مِن الزاهدين والصوفيةِ الأخيارِ.
أما بعد عبادَ الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه.
واعلموا إخوة الإيمان أن اسم الصوفي لم يكن في الصدر الأول لكن المعنى كان موجودًا، والتصوّف إخوة الإيمان ليس مجرد لُبس جبة وعمامة وكثرة ذكر وطقطقة سبحة مع ترك ما أوجب الله على المكلف تعلمه من علم الدين، إنما التصوف علم وعمل فكم من الناس يظن نفسه صوفِيًّا مع أنه لم يتعلم ما أوجب الله عليه تعلمه من علم الدين، هذا كيف يصير وليًّا… كيف يقال عنه صوفي. الصوفي هو الذي استقام على التوحيد وأداء الفرائض وزهِد في الدنيا وتواضع وذل لله تعالى وأظهر افتقاره لله بصدق، الصوفيُّ الصادق هو مَن كان عامِلاً بشريعة الله تعالى ولا يُتبعُ نَفسَه الهَوى في المأكَلِ والـمَشْرَبِ والـمـَلْبَسِ بل يَكْتَفي بالقدر الذي يَحفَظُ له صحّةَ جسده من المأكل والمشرب والملبس مع بذل الجهد بطاعة الله بأداء الواجبات والإكثار من النوافل.
فهو كما قال سيد الصوفية الإمامُ الجُنَيد البَغدادي رضي الله عنه:” ما أخَذْنا التَّصوُّفَ بالقال والقيل ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والـمُسْتَحْسَنات “اهـ. يعني قطعنا أنفسنا عن الاسترسال في شهواتِها لأن التصوف صفاء المعاملة كما رُوِيَ عن حارثة بن مالك أنه قال: ” أَسْهَرْتُ ليلي وأظمأتُ نهاري فكأني بعرش ربي بارزًا وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها وكأني بأهل النار يتعاوَون فيها ” اهـ. أي مِن شِدَّة اليقين.
يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * (سورة فصلت ءايات 30 – 31 – 32 )
إنَّ الذين استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى أداء الفرائض هؤلاء أولياء الله الذين لاخوفٌ عليهِم ولا هم يَحزَنون، وصف اللهُ الأولياء بالاستِقامةِ وهي لُزومُ طاعة الله بأداء الواجبات واجتناب المحرّمات والإكثار من نوافل العبادات.
إخوة الإيمان، إن الاستقامة مع الزهد في الدنيا طريق الولاية طريق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن تبعهم حق الاتباع بما اتبعوا به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى يومنا هذا لا تخلو الأرض ممن يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم حق الاتباع ويسمون الصوفية فهم أهل القلوب…. أهل القلوب الصافية.
فالتصوف إخوة الإيمان مرتبة عالية وهو إصلاح القلب بالوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا .
التصوف مبني على الكتاب والسنة…
التصوف اتباع شرع الله والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأحوال…
التصوف اتّصافٌ بالمحامد وتركٌ للأوصاف الذميمة…
التصوف مسلك قائم على العلم والعمل، أعلاه علم التوحيد وأداء الواجبات قبل النوافل ثم عمل البر والخير والزهد والتحلي بالأخلاق الحسنة.
هكذا أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وعلى هذا كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أدَّب المتقينَ وعَلَّمَ الزاهدين، فقد مات عليه الصلاة والسلام ولم يشبع من خبز الشعير مع أنه كان يُعطِي عطاءَ من لا يـخشى الفاقة.
وهو الذي دخل عليه عمر بن الخطاب وهو راقد على حصير من جريد وقد أثَّر في جنبه، ما احتمل عمرُ هذا المشهد وبكى، وكيف لا يبكي وهو يرى من يُفدى بالنَّفْسِ سيدَ العالمين وإمامَ المتقين وقد أثَّرَ الحصيرُ في جنبه الطاهر… في جنبه الزكي… في جنبه المشرف… في جنبه الكريم… فقال له عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك قال: ذكرتُ كِسرى ومُلكَهُ وهُرْمُزَ ومُلْكَهُ وصاحِبَ الحبشَةِ ومُلْكَهُ وأنت رسول صلى الله عليك وسلم على حصير من جريد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أما ترضى أنَّ لهم الدنيا ولنا الآخرة ” اهـ.
هذا رسول الله… هذا حبيب الله…. هذا صفوة خلق الله الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة.
إخوة الإيمان، الصوفية الصادقون بِـمَن يقتدون… وءاثارَ من يقتفون..
إنهم يقتدون بمحمد ويقتفون ءاثارَ محمد.
فليس صوفِيًّا مَنْ خالف شرعَ محمد.
ليس صوفيًّا من خالف عقيدةَ محمد.
ليس صوفيًّا من لم يتعلَّم دين محمد.
ليس صوفيًّا من لم يلتزم أوامرَ محمد.
إخوة الإيمان احمِلوا لِواءَ العِلمِ والعَمَلِ، وتجنبوا مهالك الجهل والكسل، قومُوا بما عليكم مِنَ التَّكالِيفِ… واطلبوا الـمـَغْفِرَةَ مِنَ التَّوّابِ اللطيفِ.
ارجعوا إلى الله بِصِدْقِ الافْتِقارِ…واسْلُكوا طَريقَ الفَقْرِ والانْكِسارِ.
امنعوا نفوسَكُم عن الكبرياء والتشوُّفِ…. وهذِّبوها بالكياسة والتصوف. فالتصوف إخوة الإيمان علمٌ وعملٌ كما قال سيدنا الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه ” طريقُنا علمٌ وعملٌ ” اهـ.
إخوة الإيمان من كان يريد أن يسلك مسلك التصوف لا بد له من أن يتبع الرسول اتباعًا كاملا، فقد قال الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه : كل الآداب منحصِرةٌ في مُتابَعَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَولاً وفِعلاً وحالاً وخُلُقًا ” اهـ.
وإننا إخوة الإيمان، نرى أناسًا يذمون الصوفية بالإطلاق ويعتبرون التصوف كفر وزندقة والعياذ بالله وهؤلاء ما عرفوا حقيقة التصوف.
إخوة الإيمان ليست الصوفية مذمومة على الإطلاق بل المذموم هو من ادعى التصوف ثم خالف الشريعة وترك العمل بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من أناس إخوة الإيمان يظهرون أنفسهم بمظهر التصوف ثم نراهم يحرفون دين الله بل ومنهم من يعتقد الحلول والاتحاد، يعتقدون أنَّ الله حلّ فيهم وكل هذا كفر وضلال. فليس هؤلاء من التصوف في شىء، هؤلاء الجهلة في الدين الذين يحاولون ستر عيوبهم وجهلهم بقولهم أنتم أهل الظاهر ونحن أهل الباطن، نقول لهم: الصوفي من صلح ظاهره وباطنه ووافق شرع الله تعالى بظاهره وباطنه.
فيا أخي المؤمن تعلَّم لتميز الحق من الباطل كن صوفيًّا صافيًا ولا تكن صوفيًا منافقًا فتهلك. وإذا تعلمتَ علمًا وسمعتَ نقلاً حسنًا فاعمل به ولا تكن من الذين يعلمون ولا يعملون، وهذا مما أوصي نفسي وإياكم به والله نسأل أن يمدنا بأمداد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم معلم الصوفية الصادقين وقائدهم وقدوتِهم.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.