قصة رحمة بنت إبراهيم

جاء في قصتها مارواه الحاكم في تاريخ نيسابور عن المروزي أنه قال:

إنّي ورَدْتُ في سَنةِ ثمانٍ وثلاثينَ ومائَتينِ مَدِيْنةً منْ مَدائِنِ خُوارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسْبْ، وخُبّرْتُ أنَّ بها امْرأَةً من نسَاءِ الشُّهَداءِ رَأت رؤيَا كأنَّها أُطعِمَت في مَنامِها شَيْئًا فَهي لا تأْكُلُ شيئًا ولا تَشْربُ مُنْذُ عَهْدِ أبي العبّاسِ بنِ طاهِرٍ والِي خُراسَانَ وكانَ توفّي قبلَ ذلكَ بثمانِ سنينَ رَضِيَ الله عنه .

كانَ الكَثيرُ ممَّن ينزل هذِه المدينَة إذَا بلغَهُم قِصّتها أحَبُّوا أن ينْظروا إليها فلا يَسألونَ عنها رجُلًا ولا امرأةً ولا غُلامًا إلا عَرفَها ودَلَّ علَيها، فلَمَّا وافَيتُ النَّاحِيَةَ فأَدْرَكْتُها بَيْنَ قريَتَيْنِ تمشِي مِشيَةً قويّةً فإذَا هي امرأةٌ نَصَفٌ جَيّدَةُ القَامَةِ حسَنَةُ البدن ظَاهِرةُ الدَّمِ مُتَورّدَةُ الخَدَّينِ ذَكِيَّةُ الفُؤَادِ.

قال المسَمَّى عبدَ الله بنَ عَبدِ الرحمن: أنَا أسمَعُ حدِيثَها منذُ أيّامِ الحدَاثَةِ ونَشأتُ والنّاسُ يتفَاوضُون في خبَرها وقد فَرَّغتُ بالي لَها وشَغَلتُ نَفْسِيَ بالاسْتِقْصاءِ علَيها فلَم أرَ إلا سَتْرًا وعَفافًا ولَم أعْثُرْ لَها على كَذِبٍ في دَعْواها ولا حِيْلَةٍ في التَّلبيسِ، وذَكَر أنَّ مَن كَانَ يَلي خُوَارِزْمَ من العُمّالِ كانوا فيما خَلا يَستَحضِرونَها ويَحصُرُوْنها الشّهرَ والشّهْرينِ والأكْثرَ في بيتٍ يُغلِقُونَه عليها ويُوَكّلُونَ من يُراعِيْهَا فلا يَرونَها تأكُلُ ولا تَشْربُ، ولا يجِدُون لَها أثرَ بولٍ ولا غائطٍ فَيبَرُّونَها ويَكسُونَها ويُخْلُونَ سَبيلَها، فَلَمّا تَواطَأ أهْلُ النَّاحيةِ على تَصْدِيقها استقصصتها عن حَدِيثها وسَألتُها عن اسمِها وشَأنِها كُلّه، فذكَرَتْ أنَّ اسمَها رَحمَةُ بنتُ إبْراهيمَ وأنَّه كانَ لَها زَوجٌ نَجّارٌ فَقيرٌ مَعيشته مِن عَملِ يَدِه، يأتِيْه رِزقُه يَومًا فَيَومًا لا فَضْلَ في كَسْبِه عن قُوتِ أهْلِه، وأنَّها وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أوْلادٍ.اهـ

وجَاء ملِكُ كافر إلى القَريةِ وحصل قتال بينه وبين المسلمين في القرية وأدى إلى استشهاد الكثيرين ومن هؤلاء الشهداء زوج هذه المرأة.

ويتابع الحاكم روايته فيقول: قالَتِ المرأةُ: وأُدْخِلَ الحِصْن علَينا عَشِيَّةَ ذَلكَ زُهاءُ أربَعمائةِ جَنَازةٍ فلمْ تبْقَ دارٌ إلا حُمِلَ إليها قتيلٌ وعَمَّتِ المصِيبةُ وارْتجَّتِ النَّاحِيةُ بالبُكاءِ.

قالت: ووُضِعَ زَوْجي بَيْنَ يدَيَّ قَتيلًا، فأَدْرَكَني من الجزَع والهلَعِ علَيهِ ما يُدْرِكُ المرأة الشّابّة على زَوْجِها أبي الأَوْلادِ، وكانَت لَنا عِيَالٌ.

قالتْ: فاجْتَمع النّساءُ من قَرابَاتي والجِيرانُ يُسْعِدْنَني على البكاءِ، وجَاءَ الصّبْيانُ وهمْ أطْفالٌ لا يَعْقِلُونَ من الأَمْرِ شيئًا يَطْلبونَ الخبْزَ وليسَ عِنْدِي ما أعطيهم، فَضِقْتُ صَدْرًا بأَمْري، ثمّ إنّي سَمِعْتُ أَذانَ المغْربِ فَفَزِعْتُ إلى الصّلاةِ، فصَلَّيتُ ما قَضَى لي ربّي ثُمّ سَجَدْتُ أَدْعُو وأتَضَرَّعُ إلى الله تَعالى وأسأَلهُ الصَّبْرَ، وأن يَجْبُرَ يُتْمَ صِبياني، فذهب بيَ النّومُ في سجودي، فَرأيتُ في مَنامي كأَنّي في أَرْض حَسْناءَ ذَاتِ حِجَارةٍ، وأنَا أطْلُبُ زَوْجِي، فنَاداني رَجُلٌ إلى أينَ أيّتُها الحُرّةُ؟ قلتُ أطلُبُ زَوجِي، فقالَ خُذِي ذَاتَ اليَمينِ، قالت: فأخذت ذات اليمين فرُفِعَ لي أرضٌ سَهْلَةٌ طيّبةُ الرِّيّ ظَاهِرةُ العُشْبِ، وإذَا قصُورٌ وأَبنيَةٌ لا أحْفَظُ أنْ أصِفَها، ولَمْ أَرَ مِثْلَها، وإذا أنْهارٌ تَجْري علَى وجْهِ الأَرْضِ بغَيْرِ أخَاديدَ ليسَ لها حَافاتٌ، فانْتَهيْتُ إلى قَوم جلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا علَيْهمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فإذَا هُم الذينَ قُتِلُوا في المعركةِ يأْكُلونَ على موائدَ بينَ أيدِيْهم فجعَلْتُ أتخلَّلُهم وأتصَفَّحُ وجُوْهَهُم أبغي زَوْجي لكي يَنْظُرُنِي، فنَادَاني: يا رَحْمَةُ! فيَمَّمْتُ الصَّوْتَ فَإذَا به في مِثْلِ حَالِ من رَأيتُ من الشُهداءِ، وجهُهُ مثلُ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ وهوَ يأكلُ معَ رُفقةٍ لَه قُتِلُوا يَومئذٍ معَهُ.

فَقالَ لأَصْحابِه: إنَّ هذهِ البائِسَةَ جَائعةٌ مُنْذُ اليومَ أفَتأذَنُونَ لي أنْ أُنَاوِلَها شَيئًا تأْكُلُه؟ فأَذِنُوا لَهُ، فنَاوَلَنِي كِسْرةَ خُبزٍ.  قالت: وأنا أعْلَمُ حينئذٍ أنّه خبزٌ ولكن لا أدري كيْفَ يُخْبَزُ، هو أشدُّ بياضًا من الثَّلجِ واللّبنِ وأحلى من العَسلِ والسُّكرِ وأليَنُ من الزُّبْدِ والسَّمْنِ، فأكَلْتُه فلمّا استقرَّ في جوفي قال: اذهبي كفاكِ الله مَؤُونَةَ الطّعامِ والشّرابِ ماحيِيتِ في الدّنيا، فانتَبهْتُ من نَومي شَبْعَى رَيَّا، لا أحتاجُ إلى طَعامٍ ولا شرابٍ، وما ذُقتُهما منذُ ذلكَ إلى يَومي هَذا ولا شَيئًا يأكلُه الناسُ.

وقالَ أبو العبّاسِ: وكانت تَحْضُرُنا وكُنّا نأكلُ فتتنَحَّى وتأْخذُ على أنْفِها تَزعُمُ أنّها تتأذَّى من رائحةِ الطَّعامِ، فسأَلتُها أتتغَذَّى بشَىءٍ أو تَشربُ شيئًا غيرَ الماءِ؟ فقالتْ: لا، فسألتُها هل يَخرجُ منها ريحٌ أو أذًى كما يَخرُجُ مِنَ النّاسِ؟

قالت: لا عَهْدَ لي بالأذَى منذُ ذلكَ الزّمانِ، قلتُ: فتنامينَ؟ قالتْ: نعَم أطيَبَ نومٍ، قلتُ: فما ترَينَ في منامِكِ؟ قالت: مِثلَما ترَوْنَ، قلتُ فتَجِدينَ لفَقْدِ الطّعامِ وَهْنًا ؟ قالتْ: ما أحْسَسْتُ بجوعٍ منذ طَعِمْتُ ذلك الطعامَ، وكانت تقبَلُ الصَّدَقةَ فقلتُ لها ما تَصْنَعينَ بها، قالت أكْتَسي وأكسُو ولَدِي، قلتُ: فهلْ تجدينَ البردَ وتتأذَّينَ بالحرّ؟ قالَتْ: نَعَم، قلتُ فتتوضَّئِيْنَ للصّلاةِ ؟ قالت: نعم، قلتُ: لِمَ ؟ قالَت أمرَني الفقهاءُ بذلكَ، قلتُ إنَّهم أفْتَوْها على حَديثِ: “لا وضوءَ إلا من حَدَثٍ أو نومٍ”، وذكَرتْ لي أنَّ بطنَها لاصِقٌ بظَهْرِها، فأمَرْتُ امرأةً من نسائِنا فنظَرَتْ (أي إلى غير العورة) فإذا بطنُها كمَا وصَفَتْ وإذا قد اتّخَذَتْ كِيْسًا فضَمَّتِ القُطْنَ وشَدَّتْهُ على بَطنِها كي لا ينقصِفَ ظهرُها إذا مشَت، ثمّ لم أزل أختلِفُ إلى هزَاراسْبْ بينَ السّنتين والثّلاثِ فتَحضُرُني فأعيدُ مسألتَها فلا تَزيدُ ولا تَنْقُصُ”. انتهى.

فهذا دليل لنا على أن نعتبر لنزداد يقينًا بأن الله تعالى خالق كل شئ، هو خالق الجوع والعطش، هو خالق الخبز وهو خالق الشبع عند تناول الخبز، وهو خالق الري عند شرب الماء، ليس الماء يخلق الري وليس الخبز يخلق الشبع، وليس الطعام يحفظ الصحة بطبعه، إنما الله تعالى جعله سببًا. فهذه القِصَّةُ فيها أن لا تَلازُمَ عقلِيٌّ بين فِقْدانِ الأَكْلِ وبينَ المرَضِ وذَهابِ الصّحَّةِ وانْهِدام البُنْيَةِ وكذلكَ سائرُ الأسْبابِ العَاديّةِ يصِحُّ عقلًا أن تتخلَّفَ مفعولاتُها وأن الأشْياءَ بمشيئةِ الله تعالى، وأنَّ الشُّهداءَ لهم حَياةٌ برْزخِيَّةٌ فسُبْحانَ القَدِيرِ على كلِّ شىءٍ.

< Previous Post

شؤم الظلم والغصب

Next Post >

قِصَّة الْوَلِيِّ عَبْدِ الرَّحْمـن بنِ أَبِي نُعْم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

Darulfatwa

40 Hector Street,
Chester Hill NSW 2162

P: +612 9793 3330
F: +612 9793 3103
info@darulfatwa.org.au

Darulfatwa World Map