Monday 2/8/21
الشيخ الدكتور سليم علوان يخاطب المشاركين في مؤتمر دار الافتاء المصرية الدولي السادس (القاهرة)
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا وقائدنا محمد وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين وعلى ءاله وصحبه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
أيها السادة الحضور فردا فردا، كلٌ بجميل اسمه وكريم وصفه.
كما هو معلوم لديكم أنه لا يخلو عصر من الأوبئة والأمراض التي تتنوع أشكالها وطرق انتشارها، وتختلف الأمم في سبل مواجهتها، ولكن المنهج الإسلامي، الذي عمّت أطروحاته مناحي الحياة كافة، يتميز بأنه فصل الخطاب فيما يتناوله من قضايا ومشكلات، وذلك لسببين أحدهما أنه يستند إلى الوحيين الكتاب والسنة، والثاني قاعدته العامة في إسناد الأمور إلى أهل الاختصاص؛ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وإن العالم يعيش الآن في ظروف قاسية يرق لها القلب ويندى لها الجبين؛ جراء ما أصابه من فيروس (كورونا كوفيد- 19) المستجد، الأمر الذي يستدعي الجميع لشحذ هممهم في مواجهة هذا الفيروس العضال، كل حسب تخصصه ومجاله؛ فالطبيب يعالج المرضى من الأسقام والأوجاع، ويحاول اكتشاف دواء وعلاج له، ورجال الدولة يستخدمون سلطاتهم للحد من هذا المرض والوقاية منه، والمواطن العادي في المجتمع يعمل بالاحترازات الوقائية في مواجهته، ولم يكن عالم الدين بمنأى عن هذه المواجهة، بل عليه عبء كبير وثقل شديد؛ وذلك بالنظر في العبادات من حيث حال الناس مع الفيروس؛ ليصدر الفتاوى التي تتماشى وحال الناس والوقاية من التسبب بالإصابة بهذا الفيروس.
فصحة الأبدان وعافيتها، من النعم التي مَنَّ الله تعالى علينا بها، فينبغي منا المحافظة عليها، وذلك باتخاذ أساليب الوقاية الصحية، فإنَّ درهم وقاية، خير من قنطار علاج، ومن أهم أساليب الوقاية الصحية، النظافة، فقد شرع الله عز وجل لنا الوضوء، وهو درس بليغ في أهمية النظافة، وكذلك استحباب غسل اليدين قبل الطعام وبعده، واستحباب غسل اليد قبل مباشرة الاستنجاء، وبعد أن يكون أتم الاستنجاء على الوجه المطلوب، إلى ما هنالك من فوائد صحية جاء بها الشرع الحنيف. فقد كان سيدي رسول الله r تعليما لأمته الآداب الإسلامية إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِثَوْبِهِ وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ[1].
وأما معنى قول النبي r: لَا عَدْوَى[2].اهـ فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شىء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال r: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ[3].اهـ وَقَالَ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ[4].اهـ وكلُّ ذلك بتقدير الله تعالى. والـمُصِحُّ: الذي صَحَّت ماشيتُهُ من الأمْراض والعَاهاتِ: أي لا يُورِد مَنْ إِبلُه مَرْضَى على مَنْ إِبلُه صِحاَح ويَسْقِيها مَعَها. وهذا كله من باب العمل بالأسباب، ولا ينافي العقيدة الراسخة أنه لا خالق إلا الله، وأن المرض لا يعدي بطبعه، وإنما يحصل الضرر بمشيئة الله وخلقه.
أيها السادة الحضور:
لا يخفى على أحد منا ما حلّ بالبلاد والعباد من انتشار مرض كورونا وما أدى إلى أزمات صحية واقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها.
وكان للمرجعيات الدينية ومنها دار الفتوى الأسترالية، موقفا واضحا وصريحا، إلى جانب حكومات البلاد وخاصة الوزارات الصحية المختصة، باتخاذ أساليب الوقاية الصحية، تخفيفا أو منعا من انتشار هذا الفيروس.
والعمل بهذه التعليمات والإرشادات، لم يمنعنا من الاستمرار قدما في نشر الدعوة، فقد وجدنا فيما يسمى بالتقنية الرقمية أو منصات التواصل الاجتماعي نافذة نطل بها على المجتمع وذلك لإيصال رسائل التوعية والتوجيه والحث على الالتزام بالقوانين المتبعة تحت هذه الظروف الصعبة منعا من تزايد حالات الإصابة.
من هنا كانت دار الفتوى السباقة في الاستفادة من هذه التقنيات الحديثة فكانت الدروس والتوجيهات تبث بشكل شبه يومي على منصات التواصل الاجتماعي وذلك للتأكيد على مبدأ التعاون على البر والتقوى وسعيا إلى التناصح والدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة. وكذلك تابعت دار الفتوى تقديم الفتاوى التي يحتاجها الناس في ظل بزوغ هذا المرض. كما قامت دار الفتوى بتوزيع المعونات الغذائية على المتضررين بسبب الركود الاقتصادي.
الفتاوى الرقمية
منذ ظهوره في تسعينيات القرن الماضي، أصبح الإنترنت ركيزة محورية في تحديد الهوية الاجتماعية ومعالم الحياة في المجتمعات ذات الأقليات المُسلمة، وبعد ذلك بفترة وجيزة لحقت بها المجتمعات ذات الأغلبية المُسلمة.
وقد بشَّر علماء الاجتماع بهذا التطوّر، وشرعوا بدراسة تأثيراته على الهياكل القائمة للمرجعية الدينية. وتعد الإرشادات والتوجيهات الأخلاقية الإسلامية من بين أهم المزايا التي وفرها الإنترنت.
وأصبح المسلمون الذين يقطنون أماكن بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية كالمساجد والمدارس قادرين على طلب الفتوى بكل سهولة ومن جميع أنحاء العالم، فيما يتعلق بأفعالهم السابقة أو خططهم المستقبلية. وربما يكون أكثر المنتفعين بهذه الفتاوى المجموعات المُهمّشة في السابق، بمن فيهم النساء، نظرًا لمحدودية قدرتهن على التواصل مع المرجعيات الدينية من الرجال، أو من يعيشون في أماكن نائية بعيدة عن موطن تلك المؤسسات.
وساهم التطور الذي شهده الإنترنت في العالم العربي خلال القرن الحادي والعشرين في ظهور مقدمي الفتاوى الرقمية عبر الإنترنت، وانتشار هذا النوع من الفتاوى الرقمية.
وعلى الرغم من تشكك كثير من المرجعيات الدينية في البداية من هذه الوسيلة، وبطء التكيف معها، إلا أن بعض مواقع الفتوى الشهيرة على الإنترنت في الوقت الحالي تتعلق بعلماء مسلمين ومؤسسات دينية معترف بها وجهات تابعة للدولة.
ويتيح الإنترنت لعوام المسلمين إمكانية للبقاء على اتصال بالمرجعيات الإسلامية، والتأقلم مع عوارض الحياة المُعاصرة، وما يكتنفها من جوانب لا يمكن التنبؤ بها. كما تتيح الطبيعة العالمية التي تتسم بها الفتاوى الرقمية للأفراد فرصة لتجنب عوائق الخطاب الديني المحلي واجتياز حدوده. كما يمنح الإنترنت للأطراف الأضعف حجة ضمن سياق الخلاف إمكانية للحصول على رأي موثوق يمكن استخدامه كدليل لتعزيز اهتمامات المرء والمطالبة بحقوقه، إن تواصل مع المؤهلين.
ويظل عوام المسلمين، عند تواصلهم مع المرجعيات الدينية عبر الوسائل الرقمية، على علم بالتفاوت في آراء العلماء وتنوعها. وقد استطاع البعض تطوير مهارات معرفية رقمية، تمكنهم من التمييز بين منصات الإنترنت المُختلفة، واستهداف توجهات دينية محددة.
الفرص:
بالنسبة للمفتين عبر الإنترنت، يوفر الإنترنت لهم العديد من الإمكانيات الجديدة، إلى جانب التحديات غير المسبوقة. حيث يتيح الإنترنت للمفتين فرصة الوصول إلى أعمق طبقات النسيج الاجتماعي، وتقويم سلوكيات المسلمين بمختلف توجهاتهم، والحفاظ على تمسكهم بالقيم الدينية في ظل التغيرات الاجتماعية والانتقال نحو الحداثة. كما يتيح الإنترنت، من خلال محركات البحث والتنسيق، للمفتين في بعض الأحيان، القدرة على توحيد الفتاوى والتقريب بين مختلف الآراء.
كما أتاح الإنترنت، شأنه شأن المطبوعات فيما سبق، فرصة لنشر الفتاوى على العامة، وتمكين المفتين من مخاطبة جموع المجتمع، وتوعية شعوب بأكملها، والمشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإسلامية.
التحديات:
يسعى المسلمون في وقتنا الحالي للتواصل مع المفتين عبر الإنترنت، بحثًا عمّا يتجاوز مجرد طلبهم للحكم الشرعي. حيث يعرضون على المفتين مجموعة من الطلبات والتوقعات التي قد لا يكون المفتي مستعدًّا لها أو مدربًا على مناقشتها.
وقد تؤدي الاستشارات عبر الإنترنت إلى أن يواجه المفتون بعض الممارسات الاجتماعية المختلفة تمامًا عمّا يشهدونه في بيئتهم، وخصوصًا عندما يتعاملون على نطاق يتجاوز الحدود الوطنية.
تشكل المسافة التي تفصل المُستفتي عن المُفتي على الإنترنت عائقًا إضافيًا أمام قدرة الأخير على استبيان السياق العام للسؤال. حيث يكاد يكون من الصعوبة بمكان أن يستوعب المُفتي الجوانب النفسية للسائل لاستبيان دوافعه وتطلعاته عند التواصل عبر الإنترنت. ويتوقف اعتبار هذه العقبة كمشكلة كبيرة على مقدار الأهمية التي يوليها المفتي للمقاربة السياقية لإصدار الأحكام الشرعية.
وفي ضوء الاستقطاب الحالي للرأي العام، والتفاوت الكبير في أنماط حياة المسلمين وتطلعاتهم، يُعاني المفتون عبر الإنترنت في التعرف على الحيل المُحتمل أن يضعها المستفتون في سياق تساؤلاتهم بهدف إيقاع المفتي في حرج.
وبناءً عليه، يوفّر الإنترنت باقة جديدة من المشكلات إلى جانب مجموعة من الفرص الواعدة. ولا شك أن قدرة العلماء والمفتين على دراسة واستكشاف تلك الآليات ستكون في صلب الصعوبات التي تواجه المرجعيات الدينية في القرن الحادي والعشرين.
معشر الحضور
ولا يخفاكم بعد أن تكاثرت أعداد المهاجرين المسلمين في غير بلاد المسلمين؛ وبعد أن تحوَّلت أعداد المهاجرين إلى جاليات لها ثقافتها الإسلامية في مجتمع أكثريته لا تدين بالإسلام؛ بدأت هذه الجاليات ببذل جهود لتنظيم شؤونها الدينية العامة في مجتمعات لا تتشابه فيها الظروف والحيثيات التي يبتنى على أساسها كثير من الأحكام الفقهية المعهودة في أوطان المسلمين فنشأ ما أُطلق عليه (مصطلح فقه الأقليات).
وتسببت نشأة الأجيال المتعاقبة من أبناء المهاجرين في بلاد غير إسلامية بعيدا عن العلماء ومجالسهم بالحاجة إلى من يقوم على (تصحيح) مفاهيمهم الدينية وصيانة عقائدهم ومن ثم إرشادهم إلى الأحكام الشرعية في الزواج والطلاق وكثير من الأحكام المتعلقة بشؤون الأسرة المسلمة وبيان الحلال والحرام في الملبوس والمأكول والمعاملات التجارية وغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وكثير من الفقهيات الأخرى؛ وكل ذلك لا يختلف عن حقيقة الفقه الإسلامي وإن أطلق عليه البعض مصطلح فقه الأقليات لخصوصية بعض الأحكام التي تختلف حيثياتها وظروف الحكم الشرعي عليها.
معشر الحضور
الجاليات الإسلامية في بلاد المهجر؛ مفتوح لها باب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة حيث إن القوانين الوضعية في بلاد الاغتراب لا تمنع مزاولة الدعوة الإسلامية -بشروط- الأمر الذي من شأنه أن يفتح باب الدعوة باللسان والبيان على مصراعيه عبر إظهار مكارم الأخلاق التي يدعو إليها الدين الحنيف والتزام المسلم بوعده وعهده في سائر معاملاته التي تطال كافة نواحي المعيشة.
ولكن الدعوة إلى الله في بلاد المهجر تواجه تحديا قاسيا يتمثل في التطرف باسم الدين؛ هذا المنهج الفاسد الذي تسبب في نفور كثير من أبناء المجتمعات الغربية من الإسلام والمسلمين.
كل ذلك يدعونا إلى الوقوف بقوة ضد محاولات المتطرفين الامتداد إلى مجتمعات المسلمين في بلاد الاغتراب صيانة لعقائد المسلمين وأحكام دينهم أولا ثم حماية لأشخاصهم وحقوقهم العامة ثانيا. فإن كان لمصطلح فقه الأقليات من حظ أو دور في مناهج الدعاة إلى الله في بلاد الاغتراب فينبغي أن لا تغفل هذه المناهج عن التنبُّه إلى هذه النقطة شديدة الحساسية والخطورة.
إن المسلم المغترب الذي يعيش في مجتمع غالبية أفراده من غير المسلمين؛ لا تقل وظائفه الدينية عن المسلم المقيم في مجتمع ذات أغلبية إسلامية؛ من حيث المبدإ؛ والعنصر الجامع في الحياة الدينية ينبغي أن يكون دائما موافقة المقاصد الشرعية لأن مصلحة المسلمين العامة لا تتحقق من خلال خرق المقاصد الشرعية بل هذه المقاصد هي المحور الذي لا ينبغي لأي مجموعة مسلمة أن تغفل عنه في تلقي المفاهيم الدينية وتلقينها.
أيها السادة الحضور
أجدد الشكر لدار الافتاء المصرية على دعوتها، سائلا الله تعالى أن يعيد علينا مثل هذه اللقاءات، وقد تحسنت الأحوال، وعم الأمن والأمان.
[1] رواه الترمذي وغيره
[2] متفق عليه
[3] رواه أحمد وغيره
[4] رواه مسلم وغيره.