إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونَستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادىَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلٰه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا شبيهَ ولا مَثيلَ ولا ضِدَّ وَلا نِدَّ له، ولا حدَّ ولا جُثَّةَ ولا أعضاءَ له، وأشهدُ أنّ سَيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُه ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلعالمينَ هاديًا ومُبَشِّرًا وَنذيرًا. اللهمَّ صلِّ وسلِّم على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِهِ الطيبيْنَ وَأَصحابِهِ الميامِينَ حُماةِ الحَقِّ والدِّين.
أَمّا بَعدُ عِبَادَ اللهِ فَإِنِّى أُوصِيْكُم وَنَفْسِى بِتَقْوَى اللهِ العَلِىّ العَظِيمِ القائِلِ فِى محكَمِ التّنزِيل ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ والقائِلِ أَيضًا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. وَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ المَهْدِيّينَ الرّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِها وَعَضُّوا عليها بالنّواجِذِ اهـ. [رواه أبو داود فى سننه وغيرُه]
إِنَّ الخُلَفاءَ الرّاشِدِينَ كانُوا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ العِلْمِ الذينَ هُم وَرَثَةُ الأَنبياء. وَأَفْضَلُهُمُ الخُلَفاءُ الأَربَعَةُ أَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمانُ وَعَلِيٌّ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَمُدَّةُ خِلافَتِهِم كانَتْ نَحوًا مِنْ ثَلاثِينَ سَنَةً. وَحَدِيثُنا اليَومَ عَنْ أَمِيرِ المؤمنينَ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِــىَ اللهُ عَنهُ. هُوَ أَبُو عبدِ اللهِ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ بنِ أَبِى العاصِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عبدِ شَمسِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصَىّ القُرَشِىُّ الأُمَوِىُّ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بنتُ كُرَيْز. لُقِّبَ رَضِــىَ اللهُ عَنهُ بِذِى النُّورينِ لأَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنتَىْ سيِّدِ الكَوْنَينِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم رُقيَّةَ ثُمَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بَعدَ وَفاةِ أُختِها، وَكانَ رَضِــىَ اللهُ عَنهُ رَبْعَةً ليسَ بِالقَصِيرِ وَلا بالطّوِيلِ، حَسَنَ الوَجْهِ أَبيضَ مُشْرَبًا بِحُمرَةٍ كَثَّ اللحيَةِ طَوِيلَ الذِّراعينِ شَعَرُهُ كَسَا ذِرَاعَيْهِ، قَدْ شَدَّ أَسنانَهُ بِالذهَبِ.
وُلِدَ فِى السّنَةِ السادِسَةِ مِنَ الفِيلِ وَقَد أَسلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدِ أَبِى بَكرٍ الصديقِ رَضِــىَ اللهُ عَنهُما، فَهُوَ مِنَ السابِقِينَ الأَوَّلِينَ، هاجَرَ الهِجْرَتَينِ الأُولَى مِنْ مَكةَ إِلَى الحَبشَةِ وَالثانِيَةَ مِنْ مَكةَ إِلَى المدِينَةِ. وَشَهِدَ المشاهِدَ كُلَّها مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلّا بَدْرًا لأَنَّ زَوْجَتَهُ رُقَيَّةَ كانَتْ مَرِيضَـــةً فأَمَـــرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ بالمدِينَة لِيُمَرِّضَهَا وَقَدْ عَدَّهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وأَسهَمَ لَهُ مِنْ غَنائِمِها. بُويِعَ لَهُ بِالخِلافَةِ بَعْدَ دَفْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ بِثَلاثِ ليالٍ. وَفِى عَهْدِهِ حَصَلَتْ فُتُوحاتٌ عَظِيمَةٌ وَتَوسَّعَتْ دولَةُ الإِسلامِ وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ فِى الإِسْلامِ ولله الحَمد.
وَأَمّا فضائِلُه ومآثرُه رَضِىَ اللهُ عَنْهُ فَهِىَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ومِنها أَنَّهُ سنةَ ثلاثِينَ خافَ أَن يقعَ اختِلافٌ فِى القُرءانِ فجَمَعَ الصحابَةَ وَنَسَخُوا أَربَعَةَ مصاحِفَ أَوْ خَمْسَةً مِنَ المصحَفِ الذي كانَ قَد جمعهُ أَبو بَكرٍ الصدّيقُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى كُلّ أُفُقٍ مِنَ الآفاقِ بِمصحَفٍ يكونُ مرجِعًا وعُمدَةً يعتمِدُونَ عليهِ فلَمْ يَقَعْ ولله الحمدُ خِلافٌ فِى القُرءانِ أَبَدًا.
وأَمّا زُهْدُهُ فِى الدُّنيا وَإِنفاقُهُ المالَ فِى سبيلِ اللهِ فقد روىَ الترمذِيُّ فِى سُنَنِهِ أَنَّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ الناسَ فَحَثَّ على جيشِ العُسْرَةِ فقالَ عُثمانُ علَىَّ مائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتابِها أَى معَ ما يُوضَعُ على ظُهُورِها مِنْ كِساءٍ ورَحْلٍ للركوبِ فِى سبيلِ اللهِ، ثُمَّ حَثَّ أَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ فقالَ عُثْمانُ عَلَىَّ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتابِها فِى سبيلِ اللهِ، ثُمَّ حَثَّ أَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ فقالَ عُثْمانُ عَلَىَّ ثلاثُمائَةٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتابِها فِى سبيلِ اللهِ، قالَ الرّاوِى فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ ينزلُ عَنِ المنبَر وَهُوَ يَقُولُ: ما عَلَى عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذه، ما عَلَى عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذه اهـ وَقالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ كَانَ عُثْمانُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ يُطْعِمُ الناسَ طَعامَ الإِمَارَةِ وَيَدْخُلُ بَيْتَهُ فَيَأْكُلُ الْخَلَّ وَالْزّيْتَ. [رواه أبو نعيم فى الحلية]
وَمِنْ مَناقِبِهِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النبيَّ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ تَسْتَحِى مِنْهُ الملائِكَةُ كَما جاءَ عِنْ عائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ رَضِىَ اللهُ عَنْها قالَت: يا رَسُولَ اللهِ اِستَأذَنَ عَلَيْكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَذِنْتَ لَهُما وَأَنْتَ عَلَى حالِكَ فَلَمّا اسْتَأْذَنَ عُثْمانُ جَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيابَكَ فقال: أَلا أَسْتَحِى مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِى مِنْهُ الْمَلائِكَة اهـ. [رواه مسلم فى صحيحه. ]
وَكانَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ يَختِمُ القُرءانَ فِى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ، وَعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُما قولُهُ تعالى ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَــآءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَــآئِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ قالَ هوَ عثمانُ بنُ عَفّان اهـ. [رواه أبو نعيم فى الحلية.]
أَمّا مَقْتَلُهُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ فَكانَ بَعْدَ أَنْ حُوصِرَ مُدَّةً فِى دارِهِ ومَنَعَ هو غِلمانَه أن يحرُسُوه وطلبَ من الصحابةِ أن لا يُرَاقَ دمٌ بسببِه، ولكنْ بعضُ الصَّحابةِ خافُوا عليه فأرسَلُوا أبناءَهم ليَحرُسُوا بابَه مِن أن يدخُلَ عليه مَنْ يُرِيدُ بِهِ أَذًى حَتّى أَرسَلَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ الحَسَنَ وَالحسينَ ببابِهِ يحرُسانِه. فَرَوَى أَحمدُ عَنهُ أَنَّهُ قالَ رَأيتُ البارِحَةَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم فِى المنامِ وَأَبا بكْرٍ وَعمَرَ فقالُوا لِى اصْبِرْ فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عندَنا القابِلَةَ اهـ أَىِ الليلَةَ المقبِلَةَ، فَتَسَوَّرَ بعضُ القومِ دارَهُ مِن بيوتٍ مُلاصِقَةٍ لِبَيْتِهِ وَدَخَلَ عَليهِ سُفهاءُ الفِتْنَةِ فَضربَهُ أَحدُهُم بالسيفِ فَأَكَبَّتْ عليهِ نائِلَةُ زوجتُهُ فقُطِعَتْ أَصابِعُ يدِهَا ثُمَّ قَتَلُوهُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ وَكانَ مقتلُهُ يَومَ الجُمُعَةِ لِثمانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الحِجَّة سَنَةَ خَمْسٍ وَثلاثِينَ وَهُوَ يومَئِذٍ صائِمٌ يقرأُ القرءانَ، وَهُوَ ابنُ اثنتَينِ وَثمانِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ فِى البَقِيعِ وَكانتْ مُدَّةُ خِلافَتهِ اثنَتىْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلّا اثنَىْ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَدْ رَوَى أَحمَدُ عَنْ عائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْها قالَتْ كُنتُ عِنْدَ النبيِّ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم فقال: يا عائِشَةُ لَو كانَ عندَنَا مَنْ يُحَدّثُنا، قلتُ يا رَسُولَ اللهِ أَلا أَبعَثُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَسَكَتَ ثُمَّ قالَ لَو كانَ عندَنا مَنْ يُحَدّثُنا فقُلْتُ أَلا أَبعَثُ إِلَى عُمَرَ، فَسَكَتَ ثُمَّ دَعا وَصِيْفًا بينَ يَدَيهِ أَى خادِمًا شابًّا عنْدَهُ فسارَّهُ أَى كَلَّمَهُ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسلامُ كَلامًا لم تسمَعْهُ عائِشَةٌ فَذَهَبَ، قالَتْ فَإِذا عُثمانُ يَسْتَأْذِنُ، فَأَذِنَ لهُ فَدَخَلَ فَناجاهُ النبىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم طَوِيلًا ثُمَّ قالَ: يا عُثمانُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا أَى الخِلافَة، فَإِذا أَرادَكَ المُنافِقُونَ عَلَى أَنْ تَخْلَعَهُ فَلا تَخْلَعْهُ لَهُم وَلا كَرَامَةً يقولها لَهُ مرتينِ أَوْ ثَلاثًا اهـ. [رواه أحمد فى مسنده وغيره.]
نَسأَلُ اللهَ عزَّ وَجَلّ أَنْ يَجْعَلَ فِى ذكرِ سيرَةِ هؤلاءِ الأَفذاذِ الأبرارِ ما يُنِيرُ لَنا دربَنَا وَيُقَوِّمُ اعوِجَاجَنا وَيُحَسِّنُ أَحْوالَنا وَأَفعالَنا وأَخلاقَنا، وَنَسألُهُ أَنْ يُقَوّىَ عزائِمَنَا لِلاقْتِداءِ بِهِم فِى مَسْلَكِهِم القَوِيمِ ونَهْجِهِم السَّليم.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.