عذابُ الكفّارِ في جهنم وحالُ أعمالِهم في الدّنيا
يقولُ الله تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ {16} يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ {17} مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ {18}﴾ سورة إبراهيم.
إنَّ الله تباركَ وتعالى يُخبِرُنا عَنْ حالِ الكافرِ وهو فِي الدُّنيا لأنه مُرْصَدٌ لِجهنَّم فكأنها بينَ يديهِ وهو على شَفيرِها، وأنه سيُلقَى فِي جهنّم ويَلقى فيها ما يَلقَى ويُسقى فيها ﴿مِن مَّاء صَدِيدٍ﴾ وهو ما يسيلُ مِنْ جلودِ أهلِ النّار التِي سَمكُها أربعونَ ذِراعًا وكلَّما احترَقَت بُدّلوا غيرَها ليزدادوا عذابًا، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ {56}﴾ سورة النساء.
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ أي يشربُهُ الكافر جَرعَةً جَرعَة ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي ولا يُقارِبُ ذلك لأنَّ ما يشرَبُهُ لا يَروِي عطشَ الظمآن، ﴿وَيَأتِيهِ الْمَوْتُ﴾ أي أسبابُهُ ﴿مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي مِنْ كلِّ جِهَةٍ أو مِنْ كلِّ مكانٍ مِنْ جسَدِهِ ولكنَّهُ لا يَموت، وهذا تَفظيعٌ لِمَا يُصيبُهُ مِنَ الآلام، أي لو كانَ ثَمَّةَ موت لكانَ كلُّ واحدٍ منها أي مِنْ أسبابِ العذابِ مُهلِكًا له ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ لأنه لو ماتَ لاستراح وهو معنَى قولِهِ تعالَى: ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى﴾ سورة طـٰه. أي لا يَموتُ فيرتاحُ مِنَ العذاب ولا يَحيا حياةً طيبةً هنيئة.
﴿وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أي ومِنْ بينِ يديهِ عذابٌ غليظ، أي فِي كلِّ وقتٍ يستقبلُهُ يتلقّى عذابـًا أشدَّ مِمّا قبلَهُ وأغلظ، قال الفُضَيلُ بنُ عِياض: ((هو قطعُ الأنفاسِ وحبسُها في الأجساد)).
وأخبرَنا الله بأنَّ مثَلَ أعمالِ الكفار ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ ويُفهَمُ مِنْ ذلك أنَّ الكافِرَ ليسَ له حسَناتٌ في الآخرة وأعمَالُ الكفَرَةِ هي المكارِمُ التي كانت لَهم فِي الدُّنيا مِنْ صِلَةِ الأرحامِ وعَتقِ الرّقاب وفِدَاءِ الأسرى وإطعَامِ الفقراءِ والمساكينِ والأضياف وغيرِ ذلك، يُجَازَوْنَ عليها في الدّنيا بالصّحةِ والرزق ونحوِ ذلك، شبَّهَ الله أعمالَهُم هذه في حُبوطِها برمادٍ طيرَتهُ الريحُ العاصف ولَم تُبقِ منهُ شيئًا وذلك لأنّ أعمالَهُم هذهِ بُنيت على غيرِ أساسٍ سليم وهو الإيمانُ باللهِ الواحِدِ الذي لا يُشبِهُ شيئًا ولا يُشبهُهُ شىء.
وبيّنَ لنا أنهم لا يقدِرونَ يومَ القيامةِ مِمّا كسَبوا مِنْ أعمالِهم على شىء أي لا يَرونَ له أثرًا مِنْ ثواب كما لا يُقدَرُ مِنَ الرمادِ المُطَيَّرِ في الريحِ على شىء.
وأخبرَنا بأنَّ ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ وهو إشارَةٌ إلى بُعدِ ضلالِهِم عن طريقِ الحقّ أو عنِ الثّواب، يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الكافِرَ ليُسحبُ لسانُهُ يومَ القيامَةِ وراءَهُ الفرسَخَ أو الفرسَخين يتوطأُهُ الناس)) رواه أحمدُ والترمذيّ،وفي الحديثِ: ((إنَّ أهلَ النارِ ليَبكونَ حتى لو أُجريتِ السُّفُنُ في دموعِهِم لَجَرت وإنهم ليَبكونَ الدَّمَ)) رواه الحاكم.
اللهم نجنا من عذاب القبر ومن عذابِ الآخرة وارحمنا برحمتك الواسعة واهدنا وسددنا يا أرحمَ الراحمين.