إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونَستعينُه ونَستهديه ونشكرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وَأَشهدُ أنْ لا إلٰه إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ولا مثيلَ لَه، ولا ضِدَّ وَلا نِدَّ له، وَأَشهدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعيننا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وَصَفِيُّهَ وحبيبُهُ، بَلَّغَ الرِّسالَةَ وَأَدَّى الأَمانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ فَجَزاهُ اللهُ عَنّا خَيرَ ما جَزَى نَبِيًّا مِنْ أَنبيائِهِ. اللهمَّ صلِّ على سيدِنا محمدٍ خَيرِ الكائِناتِ وعلى سائِرِ إِخْوانِهِ مِنَ النبِيِّينَ المؤَيَّدِينَ بِالمعجِزاتِ الباهِراتِ وَسَلِّم تَسْلِيمًا كَثِيرا.
أمّا بعدُ عِبادَ الله، فإني أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ العليّ العظِيم، والاقتِداءِ بالأَنبياءِ والمرسَلِين، وَالسَّعْيِ إِلَى نَيْلِ رِضا اللهِ رَبِّ العالَمِين. يَقُولُ اللهُ العليُّ العظِيمُ في محكمِ كتابِه الكريم ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ وقال تعالَى ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾[ سورة الشعراء 63-68]
أيُّها الأحِبّة، ذِكْرَى عاشوراءَ، العاشِرِ منْ شَهرِ المحرّم، ذِكْرَى اليومِ الذي نَجَّى اللهُ فيه سيدَنا نوحا ومَنْ معَه منَ الطُّوفان، وأَنزلَهُم منَ السَّفِينَةِ سالِمينَ، وذِكْرَى اليومِ الذي نَجَّى اللهُ فيه سيّدَنا مُوسَى وأتباعَهُ المسلمِينَ مِنْ فرعونَ الظالمِ الكافِرِ الأَثِيمِ، فقدَ رَوَى الإِمامُ أَحمدُ فِى مُسنَدِه عَنْ أَبِي هُريرَةَ رَضِىَ اللهُ عنهُ أَنَّهُ قالَ: مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِأُناسٍ مِنَ اليَهُودِ قَدْ صَامُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا مِنَ الصَّوْم؟ قَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللهُ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، وَهَذَا يَوْمُ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ أَي سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَى الـجُودِيِّ، فَصَامَهُ نُوحٌ وَمُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ تعالَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى، وَأَحَقُّ بِصَوْم هَذَا الْيَوْمِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالصَّوْمِ اهـ.
إِخوَةَ الإِيمان، سيدُنا نُوحٌ عليهِ السلام أَرسَلَهُ اللهُ إِلَى قَوْمٍ كُفّارٍ فَصارَ يَدعُوهُم ليلًا ونَهارًا سِرًّا وَجِهارًا بِالتّرغِيبِ تارَةً وَالترهِيبِ تارَةً أُخْرى وَظَلَّ هٰكذا أَلْفًا إِلّا خَمسِينَ سَنَة لٰكِنَّ أكثرَهُم لَـمْ يُؤْمِنْ بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلى الضّلالِ وَالطُّغْيانِ وَنَصَبُوا لَهُ العَداوَةَ وَءاذَوْهُ بالاسْتهزاءِ وَالضَّرْبِ بَلْ كانُوا لا يَترُكُونَهُ حَتّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ ماتَ ثُمَّ يعافِيهِ اللهُ وَلا يُثْنِيهِ ذلِكَ أَيُّها الأَحِبَّةُ عَنِ الدّعوَةِ إِلَى اللهِ بَلْ كانَ يَعُودُ إِليهِم ليَدعُوَهُم إِلَى الإِيمانِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مِنْ غَيرِ كَلَلٍ وَمِنْ غَيرِ مَللٍ، إِلَى أَنْ أَوْحَى اللهُ إِليهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ إِلّا مَنْ قَدْ ءامَنَ فَدعا سيدُنا نُوحٌ على القوْمِ الكافِرين ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ أَى لا تَتْرُكْ يا رَبُّ أَحَدًا مِنَ الكُفّارِ حَيًّا على وَجْهِ الأَرْضِ فَسَلَّطَ اللهُ عَليهِم عِقابَهُ، سَلَّطَ اللهُ عَليهِمُ الطُّوفانَ فَلَـمْ يُبْقِ مِنَ الكافِرِينَ أَحَدًا وَنَجَّى اللهُ نبيَّهُ وَمَنْ ءامَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ بِالسفِينَةِ التي صَنَعَها سيِّدُنا نُوحٌ بِأَمْرِ اللهِ وَحَفِظَها اللهُ بِحِفْظِهِ وَعِنايَتِهِ.
وَسيدُنا موسَىٰ إِخوَةَ الإِيمان، كانَ فِى زَمَنِ الظّالِم الطّاغِيَةِ فِرعونَ الذي كانَ يَدَّعِي الأُلوهِيَّةَ وَالعِياذُ باللهِ تعالَى، فأَمَرَ اللهُ سيدَنا موسَى عليهِ السلامُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى فِرعونَ لِيَدْعُوَهُ إِلَى الإِسلامِ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشّرِيكِ وَالشَّبِيهِ، فَذَهَبَ إِلَيهِ وأَراهُ المعجِزاتِ الباهِراتِ القاطِعاتِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَعَ ذلِكَ كَفَرَ بِهِ فِرعونُ وأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَءاذَى قَومَهُ مِنَ المؤمنين، فَخَرَجَ موسَى عليهِ السلامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي إسرائِيلَ مِنْ مصرَ وكانُوا سِتَّمِائَةِ أَلف، وَلَحِقَهُ فِرعونُ وَخَرَجَ مَعَهُ أَلفُ أَلْفٍ وسِتَّمِائَةِ أَلفٍ مِنَ المقاتِلين يرِيدُ إِبادَةَ مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ، لكِنَّ اللهَ نَصَرَ رَسُولَهُ، قالَ تعالَى ﴿فَأَوْحَيْنَـآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ اِنْفلَقَ البَحْرُ أَيُّها الأَحِبَّةُ اثْنَيىْ عَشَرَ فِرْقًا كُلُّ فِرْقٍ منْها كَالجَبَلِ العَظِيمِ، وَبينَ كُلِّ فِرْقَـيْنِ طَرِيقٌ يابِسٌ، فَدَخَلَ موسىٰ وَمَنْ مَعَهُ البَحرَ وَلَحِقَ بِهِم فِرعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَأَغْرَقَهُمُ اللهُ أَجْمَعِينَ وَنَجَّى موسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ، قالَ تعالَى ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، أَى عِندَما أَدرَكَ فِرعونَ الهلاكُ والغَرَقُ أَعلَنَ التّوبَةَ، لكِنَّ التّوبَةَ لا تَنفَعُ فِى تِلْكَ الحالَةِ لأَنَّ مِنْ شُرُوطِ التوْبَةِ أَنْ تَكونَ قَبلَ حالَةِ اليَأْسِ مِنَ الحَياةِ كإِدْراكِ الغَرَقِ لا مَـحَالَةَ، وَهُوَ ما حَصَلَ مَعَ عَدُوِّ اللهِ فِرعَونَ. قالَ اللهُ تعالى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
أَيُّها الأَحِبَّةُ الكِرامُ، ضَرَبَ لَنا أَنبياءُ اللهِ الـمَثَلَ فِى الدّعوَةِ إِلَى اللهِ وَالصَّبْرِ عَلَى ذلِكَ، وَعَلَى مَنْهَجِهِم سارَ الصّحابَةُ الكِرامُ وَأَهْلُ البيتِ العِظامُ فَبَذَلُوا الأَنفُسَ وَالـمُهَجَ دِفاعًا عَنْ دِينِ اللهِ تعالَى، وَما مِثالُ الحسينِ الشّهِيدِ رَضِىَ اللهُ عَنهُ بِبَعِيدٍ عَنّا، فَإِنَّهُ لَما رأَى مَنْ لا يَصْلُحُ لإِدارَةِ شُؤونِ المسلِمينَ قَدْ أَرادَ أَنْ يَتَسَنَّمَ الخِلافَةَ وَيَتَسَلَّطَ على الرّقابِ مِنْ غَيرِ رِضًى مِنْ أهلِ الفَضْلِ وَلا بَيْعَةٍ منْ أَهلِ الحَلِّ وَالعَقْدِ، جَهَرَ بِرَفْضِ ذلِكَ وامتنَعَ مِنَ الْمُسايَرَةِ عَلى حِسابِ الْمَصْلَحَةِ الدّينِيَّةِ وَتَمَسَّكَ بِالحَقِّ ثابِتًا علَيهِ ءامِرًا بالمعروفِ ناهِيًا عَنِ المنكَرِ حتّى قُتِلَ وَهُوَ ابنُ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم شَهِيدًا مَظْلُومًا بِيَدِ جُنُودِ الفَاسِقِ الْمُتَهَتِّكِ، وَفازَ بِذلِكَ عِنْدَ اللهِ الفوزَ العَظِيم.
فَنَسأَلُ اللهَ تَعالَى أَنْ يُوَفِّقَنا للاعتبارِ بسِيَرِ هؤلاءِ الأَكابِرِ وَالْمُضِيِّ عَلَى ِمِنْهاجِهِم وَما ذاكَ عَلى اللهِ بِعَسير.
هذا وأستغفر الله لي ولكم