الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونستغفِرُهُ ونستَرْشِدُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ ولا مَثِيلَ لَهُ، مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبالكَ فاللهُ بِخِلافِ ذلكَ وَمَنْ وَصَفَ اللهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وأشهدُ أَنَّ سیدَنا وحبيبَنا وقائِدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمدًا عَبْدُ اللهِ ورسولُه وصفيُّهُ وحبيبُه وخَلِيلُهُ، أَرْسَلَهُ اللهُ بالهدَی وَدِينِ الحَقِّ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا ونذيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللهِ بإذنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا، فَهَدَى اللهُ بهِ الأمةَ وكشفَ بهِ الغُمَّةَ وأخرَجَ بهِ الناسَ مِنَ الظُلُمَاتِ إلَى النُّورِ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ. اللهمَّ صلِّ على سيدِنا محمدٍ وعلَى ءالِه وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحسانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ،
أما بعدُ عبادَ اللهِ فَأُوصِي نَفْسِي وإياكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ فاتقوا اللهَ رَبَّ العَالَمِين.
يقولُ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ في سورةِ التوبةِ ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾.
نعيشُ اليومَ في زَمَنٍ حَصَلَ فِيهِ تَقَدُّمٌ كبيرٌ في صِنَاعَةِ الأَجْهِزَةِ والآلَاتِ التكنولوجيةِ التي أَضْحَتْ تَغْزُو البُيُوتَ وَالْمُؤَسَّسَاتِ والشَّركَاتِ، وَأَصْبَحَتْ حَياةُ كَثِيرٍ مِنَ الناسِ مُرْتَبِطَةً بِالْمَكْنَنَةِ وَالتقنِياتِ الحديثَةِ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا في شَتَّى الْمَيَادِينِ، وأَضْحَتِ الأَرْضُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ لِمَنْ في أَقْصَى الشَّرْقِ أن يَتَحَدَّثَ معَ منْ هو في أقصَى الغربِ كِتابَةً أَو صوتًا مَصْحُوبًا بالصُّورَةِ وكأنَّهما يَجْلِسَانِ في غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ رَغْمَ الْمَسافاتِ الشَّاسِعَةِ، وتَبَدَّلَتِ الوَسائِلُ التِي كانَ يَتَعاطَاها الناسُ علَى مُسْتَوَى النَّقْلِ أَوْ علَى مُسْتَوَى الْمُحَادثاتِ أَوِ الإِعْلامِ أوِ العَمَلِ التِّجاريِّ والصِّناعِيِّ، ومَا زَالَ هذَا التطوُّرُ مُسْتَمِرًّا يومًا بعدَ يَومٍ وَلَا نَدْرِي إلَى أَيْنَ سَنَصِلُ بهذِهِ الوَسائلِ وما سَتَشْهَدُهُ الأيامُ القادِمَةُ منَ الإنجازاتِ والاكْتِشافَاتِ.
وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْمَلَ مُقارَنَةً بَسِيطَةً بينَ وَاقِعِنَا اليومَ وَبينَ تاريخِنا الماضِي لَرَأَيْنَا العَجَبَ بِكُلِّ معنَى الكَلِمَةِ وذلكَ أَنَّ كلَّ هذهِ الوسائلِ لم تَكُنْ مَعْرُوفَةً في زَمَنِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ ومعَ ذلكَ فقد كانُوا أكثَرَ عِلْمًا وَهُدًى وخبرةً في شئونِ الحياةِ وأَحْسَنَ سِياسَةً لِأُمُورِ النَّاسِ وَرِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ العَامَّةِ وَحِفْظِ البِلادِ وَالعِبادِ. ونَرى اليَوْمَ رَغْمَ كُلِّ هذِه الوسائِل ِأنَّنا أَقَلُّ شَأْنًا في كُلِّ ذلكَ وأنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ قَدِ انْسَلَخُوا مِنَ الإيمانِ ومَكارِمِ الأَخلاقِ وتَجَرَّدُوا مِنْ ثَوبِ الاسْتِقَامَة، مِما يَعنِي أنَّ الآلةَ وَحْدَها لا تَكْفِي لِرُقِيِّ الإنسانِ وأنَّ التكنولوجيا بِمُفْرَدِها غيرُ كافيةٍ لِرُقِيِّ الشُّعوبِ وَتَقَدُّمِ الأُمَمِ. وَلَا يَعْنِي ذلكَ أَنَّنا نَدْعُو إلَى الإعراضِ عنْ كُلِّ هذَا الكَمِّ الكبيرِ مِنَ الصِّناعاتِ الْمُتَقَدِّمةِ والإِنْجازَاتِ العِلْمِيَّةِ بَلْ نُرِيدُ العَمَلَ علَى الاستفادَةِ منها واستِخْدَامِها فِيمَا يَعُودُ بِالنَّفْعِ علَى الْمُجتمعِ، ولكنَّنا نرَى أنَّ كثيرًا مِنَ الناشطينَ في تلكَ الوَسائلِ الواقِعَةِ تَحْتَ أسماءٍ شَتَّى: وتساب فايسبوك تويتر وغيرِ ذلكَ منَ البرامجِ قَدْ غَرِقُوا وَتَخَبَّطُوا فِيهَا خَبْطَ عَشْوَاءَ، ذلكَ أنها اخْتَرَقَتْ قُلوبَ وعقولَ أبنائِنا واسْتَحْكَمَتْ في بُيوتِنا حتَّى صارَتْ كأَنَّها مِنْ ضَرُورياتِ الحَياةِ، وَصِرْنَا نَشْهَدُ اليومَ جِيلًا لا يَعْرِفُ سُبُلَ الْمَعايِشِ وَلَا يُدْرِكُ حَجْمَ الْمُسْؤُولِيَّاتِ الجِسامِ الْمُلْقَاةِ علَى عاتِقِ الشَّبابِ لأنهُ لا يَنْظُرُ إلى الحياةِ إِلَّا مِنْ خِلالِ عَدَسَةِ الإنْترنت وما يتبعُ ذلكَ منَ الوَسائلِ، وبالتالي صارتِ الأجيالُ تَشِبُّ علَى خِلافِ الأَمَلِ الْمَنْشُودِ وعَلَى خِلافِ التَّوَقُّعاتِ التِي كانَ الآباءُ يَرْجُونَها، فَنَرى أنَّ أَغْراضَ الناسِ من استِخْدامِ هذهِ الوسائِلِ مُتَفَاوِتَةٌ وأكثرَهم يستعملُها فيمَا لا خيرَ فيهِ مما يُؤَدِّي إلى ضَياعِ الأوقاتِ، أو يكونُ استعمالُهم لها في الضَّرَرِ البَحْتِ فيَقعُ هذا الشابُّ أو تلكَ الفَتاةُ فريسةً سهلةً بينَ يَدَيِ الشيطانِ الرجيمِ، والأمثِلةُ كثيرةٌ على مَا شَهِدَهُ هذا العَصْرُ من فسادٍ وَجَهْلٍ وَضَيَاعٍ واغْتِرَارٍ بالذينَ يُخَطِّطونَ لِهَدْمِ صُروحِ مَجْدِ الأُمَّةِ جَرَّاءَ افتِتَانِهِمْ بِحَضَاراتٍ مَزْعُومَةٍ وتَتَبُّعِهِمْ هذِهِ الوسائلَ معَ إِساءَةِ اسْتِخْدَامِها، فَقَدْ أَدْمَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لا سيَّمَا الناشئةُ علَى الجُلوسِ علَى شاشَاتِ الإنترنت حتى شَغَلَهُمْ ذلك عنِ القِيامِ بالأُمورِ الْمُهِمَّةِ، فكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ تَرَكَ بِسَببِ ذلكَ الصلاةَ وضَيَّعَ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ بِرِّ والِدَيْنِ وصِلَةِ أَرْحَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وكَمْ رَأَيْنَا مَنْ هَلَكَ بِصُحْبَةِ رُفَقَاءِ السُّوءِ الذِينَ يَتَّصِلُ بهمْ بِطَرِيقِ الإنترنت بِأَنْ جَرُّوهُ إلَى الفُجُورِ فَأَصْبَحَ مُعَرْبِدًا لَا هَمَّ لَهُ سِوَى الدُّخُولِ في غُرَفِ الدَّعارَةِ وَمُتَابَعَةِ الْمُومِسَاتِ، نَاهِيكَ عَمَّا يَتِمُّ عَبْرَ الإنترنت منْ عَمَلِيَّاتِ احْتِيَالٍ وَابْتِزَازٍ بُغْيَةَ سَرِقَةِ الأَمْوَالِ أَوْ هَتْكِ الأَعْرَاضِ، وَمَا يَنْتَشِرُ مِنْ تَحْرِيضٍ ودَعَوَاتٍ مَشْبُوهَةٍ في شَبَكَاتِ التنظيماتِ الْمُتَطَرِّفَةِ التِي كانَ الإنترنت هوَ العمودَ الأَسَاسَ لَهَا في تَضْلِيلِ النَّاشِئَةِ واسْتِمَالَتِهِمْ تحتَ مُسَمَّى الجِهَادِ وتحتَ ذَرَائِعَ شَتَّى، كذلكَ الاشتِراكُ في مُنْتَدَيَاتِ حِوَارٍ واتصالاتٍ مُشَفَّرةٍ معَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ فَيَتَأَثَّرُ الجَاهِلُ بما يُلْقِيهِ هؤُلاءِ الشياطينُ فَيَجُرُّهُ إلَى الفِسْقِ أو إلَى الكُفْرِ أَوْ مُمَارَسَةِ أَلْعَابٍ مُضِرَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وهذَا مَا شَهِدْنَاهُ في الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ حيثُ انْتَشَرَتْ أَلْعَابٌ إِلكترونية مِثْلُ لُعْبَةٍ تُسَمَّى الحُوتَ الأَزْرَقَ ولُعبةٌ أُخْرَى تُسَمَّى مريم يَنْخَدِعُ بِها السُّذَّجُ فَيَتَمَادَوْنَ في تَعاطِيها حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمْ أَسِيرَ مَا تُوجِّهُهُ إلَيْهِ هذهِ اللُّعبةُ إلى حَدِّ أَنَّه يُعَطِّلُ عَقْلَهُ تَمامًا وَيَقُودُهُ ذلكَ إلَى الانْتِحَارِ، وقَدْ شَهِدْنَا في بعضِ البِلادِ عَدَدًا مِنْ حَالَاتِ الانْتِحَارِ نَتِيجَةَ هذِهِ الألعابِ.
ولا يَخْفَى فوقَ ما تقَدَّمَ إِهْمَالُ مُدْمِنِي الإنترنت لِحَيَاتِهِمُ الاجْتِماعِيَّةِ وَوَاجِبَاتِهِمْ تجاهَ أَوْلادِهِمْ وزَوْجَاتِهِمْ أو وَالِدِيهِمْ ومَا يُؤَدِّي إليهِ إِدْمَانُ النَّظَرِ في الإنترنت منْ ظُهورِ الاضْطِرَاباتِ النَّفْسِيَّةِ كَالْإِصابَةِ بِالْقَلَقِ جَرَّاءَ السَّهَرِ الْمُفْرِطِ وَعَدَمِ أَخْذِ القِسْطِ الكَافِي منَ الراحَةِ لِيَنْشَطَ البَدَنُ. هذَا وَصِرْنَا نَرَى زيادةً علَى ذلكَ خَطَرًا مِنْ أَبْلَغِ الْمَخَاطِرِ وَهُوَ أَنَّ كثيرًا منَ الناسِ تركُوا مجالسَ العلمِ والسَّعْيَ لِطَلَبِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وصارُوا إذَا احتاجُوا إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ أَوْ فَهْمِ مَسْأَلَةٍ هُرِعُوا إلَى غوغل وراحُوا يُفَتِّشونَ في برامِجِ الإنترنت عَنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وكأَنّ َهذهِ الآلاتِ شَاهِدُ عَدْلٍ يُرْجَعُ إليهِ في تَقْرِيرِ الفَتَاوَى الشَّرْعِيَّةِ، معَ العِلْمِ أَنَّ كَثيرًا مِنَ الذِينَ تَتَصَدَّرُ تَسْجِيلاتُهُمْ وَمَحْفُوظَاتُهُمْ هذِهِ البَرَامِجَ لَيْسُوا ممنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ أَصْلًا، بل وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ دَرَسُوا العِلْمَ واسْتَأْهَلُوا التَّدْرِيسَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ القرءانَ والحَدِيثَ فَيُنْكِرُ عَذَابَ القَبْرِ، وثَانٍ يَزْعُمُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ موسَى عليهِ السلامُ كانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ وَأَنَّهُ سَأَلَ اللهَ فقالَ: يَا رَبّ هَلْ تَنَامُ كَمَا تَدَاوَلَ ذلكَ بَعْضُ الرَّعَاعِ والعِيَاذُ بِاللهِ، وءاخَرُ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقِ الشَّرَّ فَيُكَذِّبُ بذلكَ كلمةَ لا إله إلا اللهُ ويجعَلُ معَ اللهِ شريكًا في الخَلْقِ، وخَبِيثٌ يُدَافِعُ عَنْ إبليسَ ويزعُمُ أنهُ لم يَكفُرْ بِاللهِ فَيُكَذِّبُ قولَهُ تعالَى في سورةِ البَقَرَةِ ﴿إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ﴾. وكلُّ هذَا ثَابِتٌ في تَسْجِيلاتٍ مَحْفُوظَةٍ بأَصْوَاتِ قَائِلِيهَا، وَهُوَ ضَلالٌ مُبِينٌّ وَخُروجٌ عَنْ مِلَّةِ الْمُؤْمِنينَ. وهذَا كُلُّهُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَخَاطِرَ جَمَّةٍ بَاتَتْ تتَأَتَّى بِطريقِ الإنترنت وهُوَ ما يَسْتَدْعِي مِنَّا التَّصِدِّيَ بِحَزْمٍ مِنْ خِلَالِ الإِرشادِ والتَّوْعِيَةِ علَى الْمُسْتَوَى الْمَطْلُوبِ وَتَعْوِيدِ أَنْفُسِنَا وأَوْلَادِنَا علَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ هذِهِ الوَسَائِلِ إلَّا وَقْتًا مُحَدَّدًا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ثم نَتْرُكُ باقِيَ الوَقْتِ لِلانْصِرَافِ إلَى غَيْرِهَا منَ الْمُهِمَّاتِ وَبِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَنِ ابْتَدَعَها اسْتِعْمَالَها للسَّيْطَرَةِ علينَا وعلَى أَجْيَالِنَا وذلكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ هذَا الشَّرُّ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ.
هذا وأستَغْفِرُ الله.