الجواب : اعلم أخي المسلم أن اعتقاد المسلمين سلفهم وخلفهم أن الله غنيّ عن العالمين، أي مستغن عن كل ما سواه أزلاً وأبدًا فلا يحتاج إلى مكان يقوم به أو شىء يحل به أو إلى جهة، ويكفي في تنـزيه الله عن المكان والحيز والجهة قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} {الشُّورى:11} فلو كان له مكان لكان له أمثال وأبعاد طول وعرض وعمق ومن كان كذلك كان محدَثًا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، هذا الدليل من القرءان.
أما من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقي بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىءٌ غَيْرُهُ ” ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسيّ ولا عرش ولا إنس ولا جن ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان، فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان، وهو الذى خلق المكان فليس بحاجة إليه؛ وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور.
وقال الحافظ البيهقي المتوفى سنة 458 هـ في كتابه الأسماء والصفات:” استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم :” وأنتَ الظَّاهرُ فليسَ فوقكَ شىءٌ، وأنتَ الباطنُ فليسَ دونَكَ شىءٌ ” وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان” .انتهى
وهذا الحديث فيه الرد أيضًا على القائلين بالجهة في حقه تعالى.
وقال الإمام عليّ رضي الله عنه: “كان الله ولا مكان وهو الآنَ على ما عليه كان” رواه الإمام أبو منصور البغدادي.
وأما رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء فلا يدل على أن الله متحيز في جهة فوق كما أن حديث مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ” أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء ” لا يدل على أن الله في جهة تحت، فلا حجة في هذا ولا في هذا لإثبات جهة فوق ولا جهة تحت لله تعالى بل الله تعالى منـزه عن الجهات كلها.
وقال الإمام السلفي أبو جعفر الطحاوى المولود سنة 227هـ فى عقيدته التى ذكر أنها عقيدة أهل السنّة والجماعة: ” تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الستّ كسائر المبتدعات “.انتهى
وممن نقل إجماع المسلمين سلفهم وخلفهم على أن الله موجود بلا مكان الإمام النحرير أبو منصور البغدادى المتوفّى سنة 429 هـ الذي قال فى كتابه “الفَرْق بين الفِرَق” في بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة، (ص256) ما نصّه :”وأجمعوا – أي أهل السنة والجماعة – على أنّه – تعالى- لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان” .انتهى بحروفه
وقال إمام الحرمين عبد الملك الجويني المولود سنة 419 هـ في كتابه الإرشاد: “مذهب أهل الحق قاطبة أن الله يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات” انتهى
وقال مفتي ولاية بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري الشافعي المتوفى سنة 1323 هـ في كتابه ” الكفاية لذوي العناية ” عن الله مانصه : “ليس بجِرم يأخذ قدرا من الفراغ، فلا مكان له، وليس بعرض يقوم بالجرم، وليس في جهة من الجهات، ولا يوصف بالكِبَر ولا بالصغر، وكل ما قام ببالك فالله بخلاف ذلك ” .انتهى
وقال الشيخ حسين بن محمد الجسر الطرابلسي المتوفى سنة 1327 هـ في كتابه “الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية” ما نصه: “إنه تعالى ليس جوهرًا ولا جسمًا، فلا يحتاج إلى مكان يقوم فيه، لأن الاحتياج إلى المكان من خواص الجواهر والأجسام، وثبت هناك أنه تعالى ليس عرضًا فلا يحتاج إلى محل يحل فيه”.انتهى
وقال شيخ الجامع الأزهر الشيخ سليم البشري المصري المتوفى سنة 1335 هـ ما نصه: “اعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منـزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث، ومن ذلك تنـزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية” ا.هـ نقلا عن كتاب “فرقان القرءان “.
فكما صح وجود الله تعالى بلا مكان وجهة قبل خلق الأماكن والجهات، فكذلك يصح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان وجهة وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى.
هذا وقد وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه المتوفى سنة 150 هـ في كتابه “الوصية” :” ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق ” اهـ.
وقال الإمام مالك رضي الله عنه المتوفى سنة 179 هـ :” الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع” اهـ. رواه البيهقي بإسناد جيد ، ولم يقل ” والكيف مجهول “.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه المتوفى سنة 204 هـ : “من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه ومن انتهى إلى العدم الصرف فهو معطل ومن انتهى إلى موجود واعترف بعجزه عن إدراكه فهو موحد” انتهى”. رواه البيهقي وغيره .
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه المتوفى سنة 241 هـ “والله تعالى لا يلحقه تغير ولا تبدل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش“ ، وكان ينكر- الإمام أحمد – على من يقول“ إن الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة “. رواه الإمام أبو الفضل التميمي الحنبلي في كتاب ” اعتقاد الإمام أحمد”.
وقال الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل وذو النون المصري المتوفى سنة 245هـ رضي الله عنهما :” مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك “انتهى . روى ذلك عن أحمد الإمام الفقيه أبو الفضل التميمي المتوفى سنة 410 هـ، وعن ذي النون الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ .
وهذا السلطان العادل العالم المجاهد صلاحُ الدين الأيوبي المتوفى سنة 589هـ رحمه الله أمر أن تذاع أصول العقيدة السنية على المنائر قبل أذان الفجر، وأن تُعلّم المنظومة التي ألّفها لهُ محمد بن هبة البرمكي المتوفى سنة 599 هـ للأطفال في الكتاتيب، ومما جاء فيها:
وصانع العالم لا يحويه قطر تعالى الله عن تشبيه
قد كان موجودا ولا مكانا وحكمه الآن على ما كانا
سبحـانه جلَّ عن المكان وعزَّ عن تغيـر الزمـان
فقد غـلا وزاد في الغلو من خصـه بجـهة العلو
وهذه العقيدة تدرس في جامعة الأزهر في مصر وفي جامعة الزيتونة في تونس بل وسائر المغرب العربي، وكذا في أندنوسيا وماليزيا وتركيا وسائر بلاد الشام والسودان واليمن والعراق والهند وباكستان وإفريقيا وبخارى والداغستان وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين .
هذا وقد نقل الإمام القرافي المتوفى سنة 684 هـ والإمام السبكي المتوفى سنة 756هـ والحافظ العراقي المتوفى سنة 804هـ والشيخ ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة 947 هـ وملا علي القاري الحنفي المتوفى سنة 1014هـ ومحمد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371هـ وغيرهم عن الأئمة الأربعة هداة الأمة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك و الإمام الشافعي و الإمام أحمد رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم في حق الله.
ونص عبارة الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه “المنهاج القويم” ص 224 :”واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك واحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك ” اهـ.
ونص عبارة الفقيه الحنفي ملاّ علي القاري في كتابه “شرح المشكاة” (ج3/300) :” قال جمع من السلف والخلف إن معتقِد الجهة (أي في حق الله) كافر كما صرح به العراقيّ وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني( المتوفى سنة 403 هـ)” انتهى.
وقَالَ الشَّيْخُ مَحْمُود مُحَمَّد خَطَّاب السُّبْكِيُّ المصري المتوفى سنة 1352 هـ : “وَقَدْ قالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ والخلف: إِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللهَ في جِهَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ”. ذَكَرَهُ في كِتابِهِ إِتْحافُ الكَائِنات ص 3-4
بل قالَ الإمامُ عَلِيُّ بْنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “سَيَرْجِعُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ كُفَّارًا يُنْكِرُونَ خَالِقَهُم فَيَصِفُونَهُ بِالْجِسْمِ والأَعْضَاءِ”. رَواهُ ابْنُ الْمُعَلِّمِ القُرَشِيُّ في كِتَابِهِ نَجْمُ الْمُهْتَدي وَرَجْمُ الْمُعْتَدي ص 588.
ونقل ابن المعلم القرشي المتوفى سنة 725 هـ في “نجم المهتدي”ص 551 عن “كفاية النبيه في شرح التنبيه” قوله :”وهذا ينظم من كفره مجمع عليه ومن كفرناه من أهل القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنّه لا يعلم المعدومات قبل وجودها ومن لا يؤمن بالقَدَر. وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين ( ت 462 هـ) هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه”. انتهى
وقال الإمام محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 1083هـ في كتابه “مختصر الإفادات” ص 489 :” فمن اعتقد أو قال إنَّ الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر”.
وقال في ص 490 :”ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شىء فمن شبهَهُ بشىء من خلقه فقد كفر كمن اعتقده جسمًا أو قال إنه جسم لا كالأجسام” انتهى.